عام على طوفان الأقصى- حسابات الربح والخسارة لإسرائيل والمنطقة

لم يكد ينقضي عام على عملية طوفان الأقصى، حتى أيقظت إسرائيل في نفوس الشرفاء وذوي الضمائر الحية تذكيرًا قاسيًا بأن الدولة المحتلة قد تخلت عن كل القيم الإنسانية والأخلاق النبيلة، وبرز كيان مارق يستدعي التاريخ المشؤوم ليبرر القتل والتدمير والفتك، بل ويجد من يستميت في تبرير ذلك تحت ذريعة "الدفاع عن النفس".
وها هي إسرائيل تعيد إنتاج صور مروعة من حرب الإبادة التي شنتها على غزة في لبنان، وشنّت آلاف الغارات الجوية الغاشمة، أسفرت عن استشهاد ما يقارب 1700 لبناني، من بينهم قادة بارزون في حزب الله، بمن فيهم سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وإصابة نحو 8500 شخص، وتهجير قسري لأكثر من مليون لبناني.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsفاطمة تحارب الجوع في غزة لتنقذ جنينها
أم غزية تجد ابنها بين الجثث المجهولة وتحمد الله أنه كامل
وبنفس العدوان المستمر والوحشية المفرطة، تمعن إسرائيل في ممارساتها الشنيعة على غزة، والتي يمكن وصفها بأقل تقدير بأنها حرب إبادة جماعية بكل المقاييس، وذلك بالنظر إلى حجم القتل والإصابات والتدمير الهائل الذي لحق بقطاع غزة، سواء على صعيد الخسائر البشرية الفادحة أو تدمير البنية التحتية بشكل ممنهج، ومحو كل معالم الحياة.
فإذا كان قد استشهد أكثر من أربعين ألف فلسطيني غزي، معظمهم الساحق من النساء والأطفال الأبرياء، بمن فيهم قادة كبار مثل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وصالح العاروري، وجرح ما يربو على 100 ألف جريح، مع وجود آلاف آخرين تحت الأنقاض والركام، وتدمير ما يزيد على 85٪ من مساكن غزة تدميرًا جزئيًا أو كليًا، فإن كل هذه الأرقام المروعة مرشحة للارتفاع بشكل كبير، والأحداث تتسارع بوتيرة غير مسبوقة، وهذا الرصد الموجع هو فقط حتى تاريخ نشر هذه المقالة.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، ومع ثبوت القناعة الراسخة بأن المجتمع الدولي بات عاجزًا تمامًا وفي حالة شلل تام عن اتخاذ أي موقف جاد يمكنه أن يضع حدًا لهذا العدوان الغاشم، تبقى أسئلة جوهرية عميقة بلا إجابات واضحة شافية، وذلك في سياق تقييم دقيق لحسابات الربح والخسارة، سواء تعلق ذلك بالجانب الفلسطيني المقاوم الصامد، أو تعلق بدولة الاحتلال الإسرائيلي المتعجرفة وعلى رأسها الحكومة اليمينية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو، ويضاف إلى هذا تقييم شامل للمشهد الدولي المتخاذل وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، وكيفية التعامل مع كل هذه التطورات المتسارعة. تسعى هذه المقالة إلى فهم عميق لحسابات الربح والخسارة بعد مرور عام كامل على هذا العدوان المستمر.
الحرب المفتوحة
منذ خطابه الأول، عمد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الربط المريب بين أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، وبين أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. بدا هذا الربط في الوهلة الأولى مجرد محاولة يائسة لحشد الرأي العام الغربي، وخاصة الأمريكي، وكسب تعاطفهم ودعمهم المطلق لإسرائيل، ولكن التدقيق المتأمل في هذا الاستدعاء التاريخي قد يفسر لنا الكثير من التطورات الدراماتيكية التي شهدتها غزة منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، حيث أعلنت إسرائيل رسميًا حالة الحرب، وبموجبها شنت العملية البرية الوحشية التي سبقتها حملة قصف جوي مكثف على غزة.
في سياق هذا المنطق الاستدعائي، فإن السياسات الإسرائيلية العدوانية في الضفة الغربية المحتلة، واستهداف المقدسات الإسلامية والمسيحية، وتجاهل المطالبات الفلسطينية والإقليمية العادلة، والتوسع الممنهج في الهجمات على لبنان، كلها عوامل استدعت القيام بعمل مضاد ضدها، على الأقل من وجهة نظر فصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس.
إن عملية الاستدعاء الممنهج لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الأمريكية توحي في العقل الجمعي بمسألة بالغة الأهمية والخطورة، وهي أن الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة هي حرب مفتوحة بلا أفق زمني محدد، وإذا ما تذكرنا أن الحرب التي تم شنها عالميًا تحت مسمى الحرب على الإرهاب، والتي حطت رحالها في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن ودول أخرى في المشرق والمغرب، فإنها استمرت لما يقارب عقدين من الزمن، ولا تزال في بعض جبهاتها مشتعلة.
لم يكن العدوان الغاشم على غزة مجرد رد فعل انتقامي على أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وإنما كان محاولة دنيئة لإعادة ترتيب وضع إسرائيل فيما يتعلق بالسيطرة الكاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة، ونسف ما تبقى من اتفاق أوسلو من الجانب الفلسطيني، والاستمرار في عملية تطبيع للعلاقات مع دول المنطقة بعيدًا كل البعد عن جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وهو القضية الفلسطينية العادلة والاحتلال البغيض وحق العودة المقدس، بحيث دخل مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة غرفة العناية المركزة، كما لحقه مشروع حل الدولتين.
وهذا بحد ذاته كان يمثل سعيًا حثيثًا لإعادة ترتيب مكانة إسرائيل المزعومة في المنطقة فيما يمكن تسميته بـ "أسرلة" المنطقة، بعبارة أخرى توظيف كامل وشامل للأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة لخدمة المصالح الإسرائيلية الأمنية الشاملة، وهي الخطة الخبيثة التي تبناها نتنياهو منذ عام 2009 عندما اعتقد واهمًا بأن إسرائيل يجب عليها أن تتجنب الحروب التقليدية وأن تشن حروبًا عبر التكنولوجيا المتطورة، وهو الأمر الذي لم ينجح بالمحصلة النهائية، وأُجبر على شن حروب تقليدية مكلفة، كما أنه أيضًا اعتمد بشكل كبير على إستراتيجية تطبيع إسرائيل في المنطقة بحيث تصبح دولة مقبولة ومن ثم تقل الأطراف المعادية لها، وهو الأمر الذي لم يتحقق أيضًا.
في الوقت الذي كانت فيه مسارات تطبيع العلاقات تتطور مع إسرائيل بعيدًا عن الجوار الفلسطيني المباشر، أمعنت إسرائيل في فرض حقائق جديدة على الأرض في الضفة الغربية المحتلة، بحيث تحولت الحياة تدريجيًا إلى جحيم لا يطاق ومعاناة يومية قاسية مع تهميش مستمر ومتواصل للسلطة الفلسطينية الضعيفة، وتحويلها إلى مجرد مزود بسيط للخدمات الأمنية لصالح إسرائيل.
لم تكن هناك مقاومة مسلحة تذكر في الضفة الغربية المحتلة، وكانت التجاوزات والانتهاكات تحدث بشكل يومي على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وتحديدًا المسجد الأقصى المبارك، ولم يدفع كل ذلك الهدوء الظاهري الحكومة الإسرائيلية المتطرفة إلا إلى مزيد من التطرف والعنف وسياسات فرض الأمر الواقع بالقوة. هذه السياسات القمعية التي يتم تطبيقها في الضفة تسعى حكومة إسرائيل اليمينية إلى تطبيقها أيضًا في قطاع غزة المحاصر في سياق ما يسمى زورًا وبهتانًا باليوم التالي لحرب الإبادة الجماعية في غزة.
إن التحدي الجسيم الذي يواجه بنيامين نتنياهو في بلورة خطة عملية قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، وتحظى بقبول الأطراف الدولية والإقليمية المتحالفة مع إسرائيل، يدفعه دفعًا إلى الاستمرار في هذا العدوان السافر، لكن القناعة الراسخة لدى الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة التي يرأسها بنيامين نتنياهو ترى أن استمرار العدوان هو ضرورة قصوى وأن رفض جميع محاولات وقف إطلاق النار يصب في صميم المصلحة الإسرائيلية على المدى البعيد، وأن ذلك هو السبيل الوحيد لاستعادة حالة الردع المزعومة التي كانت تعتقد إسرائيل أنها تتمتع بها قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
أمام كل ما كانت تقوم به إسرائيل من جرائم حرب على مدى عقدين تقريبًا، كانت حالة الصمت الدولي المخزي تجاه كل ما ترتكبه إسرائيل من فظائع إنما ينعكس بشكل ممنهج على تدمير ممنهج لكل التركة الدولية التي شكلها المجتمع الدولي عبر الأمم المتحدة منذ خمسينيات القرن الماضي. وقد تجلى ذلك بوضوح في الأيام الأولى لحرب الإبادة الجماعية على غزة، حيث جرى الزج المتعمد بوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في أتون الصراع عبر توجيه اتهامات باطلة لبعض الفلسطينيين العاملين فيها بعلاقاتهم المزعومة بما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
كان الهدف الخفي من وراء هذا الزج هو شيطنة هذه المنظمة الإنسانية تمهيدًا لتدمير مؤسساتها وبنيتها التحتية في قطاع غزة المحاصر، وهو ما جرى بالفعل. فتدمير البنية التحتية الحيوية للوكالة في غزة هو جزء لا يتجزأ من مخطط إسرائيلي خبيث يهدف إلى فرض وقائع جديدة على الأرض تساعد حكومة نتنياهو المتطرفة في فرض تصوراتها المريضة لليوم التالي لانتهاء العدوان دون أي دور يذكر لوكالة الأونروا.
وقد بلغ العدد الإجمالي للعاملين في وكالة الأونروا الذين استشهدوا جراء القصف الإسرائيلي الوحشي حتى العاشر من سبتمبر/أيلول 2024 حوالي 214 شهيدًا. يُذكر أن عدد العاملين في وكالة الأونروا في قطاع غزة يبلغ حوالي 13 ألف موظف، ولدى الوكالة حوالي 300 منشأة ترفع عليها جميعًا علم الأمم المتحدة. وتشير بعض التقارير الصادرة عن الأونروا إلى تضرر أكثر من 200 منشأة بشكل كلي أو جزئي جراء الهجمات الإسرائيلية المتواصلة. إن تغييب دور وكالة الأونروا يمثل مصلحة كبرى وهدفًا استراتيجيًا لحكومة نتنياهو المتطرفة لفرض وقائع جديدة على الأرض وتغيير معالمها، وما يجري الآن من عدوان سافر على غزة ما هو إلا توظيف خبيث لخلق تلك الوقائع وتصديرها إلى الضفة الغربية المحتلة وكذلك إلى لبنان.
بهذا الشكل لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن أن ما يجري من حرب إبادة جماعية وحشية على قطاع غزة المحاصر مرتبط فقط بالرد على هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول. إن ما يجري على أرض الواقع إنما هو عملية ممنهجة ومدروسة بعناية فائقة لإعادة تشكيل واقع جديد يتعلق بالقضية الفلسطينية العادلة ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها، واقع تراه حكومة إسرائيل المتطرفة يخدم مصالحها الاستراتيجية في لحظة تاريخية حرجة يعيش فيها المجتمع الدولي والنظام الدولي برمته حالة من الضعف والتردي، وحالة من غياب اليقين والضبابية، بحيث يصعب أن تجد دولة واحدة قادرة على اتخاذ موقف واضح وصريح تدافع عنه وتتبناه بشجاعة.
لا شك إطلاقًا في أن الوقوف مليًا على أعتاب مرور عام كامل على عملية "طوفان الأقصى" المباركة، والتدقيق العميق في التداعيات الإقليمية الخطيرة لهذه العملية، ولا سيما بعد توسع الهجمات البربرية الإسرائيلية على دولة لبنان الشقيقة، يؤكدان بشكل قاطع أن الحرب العدوانية على غزة بالنسبة لدولة الاحتلال الإسرائيلي لم تكن أبدًا مجرد رد فعل انتقامي، وإنما كانت ولا تزال محاولة يائسة ومستميتة لفرض وقائع جديدة على الأرض بالقوة الغاشمة.
لذا فإن تقييم المكاسب والخسائر المحتملة إنما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمرحلة الجديدة التي يراد لها أن تتشكل وتتبلور، أو تستدعي ترتيبات مسبقة تم إعدادها في المنطقة، مرحلة يراد لها أن تعيد فرض ترتيبات أمنية وسياسية جديدة لما بعد ما يسمى بالربيع العربي المشؤوم، بحيث تكون دولة الاحتلال الإسرائيلي جزءًا أصيلًا لا يتجزأ من هذه الترتيبات الخبيثة، والاستمرار في تجاهل القضية الفلسطينية العادلة بكل أبعادها: الإنسانية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وإعادتها قسرًا إلى ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
لذا فإن مدى النجاح الفعلي لتلك المرحلة المريبة ومشاريعها الأمنية والسياسية المشبوهة سيعتمد بشكل كبير ودون أدنى شك على الكيفية التي سينتهي عليها العدوان الغاشم المستمر على قطاع غزة المحاصر، والنتائج المحتملة لتوسع نطاق الهجمات الإسرائيلية المتواصلة على دولة لبنان الشقيقة، والتي تأخذ طابعًا تصعيديًا مستمرًا يومًا بعد يوم، والسيناريوهات التي سينتهي عليها هذا العدوان الشامل، ولا سيما الترتيبات الخاصة باليوم التالي.